الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : أسرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
84 - رقم الاستشارة : 1227
08/03/2025
كنت أدرس فصلاً في مقارنة الأديان، وتكلمنا عن آية القوامة في سورة النساء، جزئية الضرب.
كيف يكون (علميًّا) الضرب وسيلة للتعامل بين الأزواج؟ وهل له علاقة بمازوخية المرأة بشكل ما؟ وهل هو لازم لدور الرجل؟
أنا قرأت تفاسير كثيرة، ولكن كلها بلغة عصور سابقة، وأنا أصدق القرآن جدًّا وأستسلم إليه، لكن مش فاهم دور الضرب بلغة عصرنا، والمراد منه لنفسية الرجل والمرأة، ودوره في العلاقة بينهم بصورة ولغة علمية.
الأخ الكريم محمود، مرحبًا بك، ونشكرك على تواصلك معنا وثقتك بنا، وبعد:
فلا شك أن مسألة ورود الأمر في القرآن الكريم بضرب الزوجات في حالة النشوز من الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام، ويبنُون عليها كثيرًا من الأباطيل ليُوهموا الناس بقسوة الإسلام وعدم احترامه للمرأة، وتحيّزه ضدها. وفي رأيي أن ذلك لا يحدث منهم –غالبًا– عن جهل، وإنما يتضح سوء نواياهم من خلال نزعهم للفظ «واضْرِبُوهُنَّ» من سياقه، وبناء رأيهم عليه مجردًا من ضوابطه التي حددتها الآية الكريمة وبيَّنتها السنة النبوية الشريفة.
واسمح لي أخي أن أوضح أولًا بإيجاز الموقف الشرعي الصحيح من مسألة ضرب الزوجات بلغة غير التي عهدتَها من كتب التفسير.
يقول رب العزة سبحانه وتعالى: (واللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) [النساء: 34].
ويظن أصحاب الفهوم الضيقة والنظرات السطحية أن الآية تعطي للأزواج تفويضًا مطلقًا بضرب زوجاتهن، ولا يدري هؤلاء أن هذه الآية جزء من منظومة متكاملة تحدد طبيعة العلاقة بين الزوجين وحقوق كل منهما وواجباته، ولا يمكن تناولها معزولة عن هذه المنظومة. كما أن الآية تقيد الضرب بثلاثة قيود:
* أولها: قصره على حال النشوز والعصيان من الزوجة.
* ثانيها: المرحلية والتدرج، وجعله آخر الوسائل التي يلجأ إليها الرجل لتهذيب زوجته وإصلاحها، بعد الوعظ والنصح ثم الهجر في المضجع.
* ثالثها: أن يكون على قدر الموقف والحاجة، فلا يستمر، ولا يكون قاعدة للتعامل بين الزوجين إن عادت الزوجة من نشوزها وأطاعت زوجها.
ثم أتت السُّنة بعد ذلك لتضع قيودًا وضوابط أخرى لعملية الضرب هذه، فبيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يجب أن يكون الضرب غير مبرح، ولا يترك أثرًا، ولا يكون على الوجه، حيث إن الغرض منه ليس الإيذاء، وإنما التأديب والزجر.
ومن أشهر الأحاديث التي يستشهد بها المناوئون للإسلام لإلصاق التهم به من خلال هذا الأمر، حديث: «لا يُسْأل الرجل فيم ضرب امرأته». وهذا الحديث فهمه البعض خطأ على وجهين:
* أولهما: أنه ليس من حق أحد من البشر أن يسأل الرجل عن سبب ضربه لامرأته.
* ثانيهما: أن الرجل لا يُسأل يوم القيامة ولا يحاسب عن ضربه لامرأته!
والحديث أولًا في سنده مقال، وقد ضعفه بعض العلماء. إلا أنه حتى لو صح، فليس المقصود به ما تقدم، وإنما المقصود نهي الناس عن التطفل والتدخل بين الزوجين، إلا لو رفعت المرأة –أو وليها– أمرها إلى القاضي تشتكي زوجها، فمن حق القاضي أن يسأله ويحاسبه، بل ويفرق بينهما إن كان في استمرار العلاقة ضرر على الزوجة من جهة زوجها، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى النسائي أن ثابت بن قيس -رضي الله عنه- ضرب امرأته فكسر يدها، وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي، وأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم،- فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ثابت، فقال له: «خُذ الذي لها عليك، وخلِّ سبيلها»، قال: نعم، فأمر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تتربص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها.
ومن الأحاديث أيضًا المروية في هذا الباب حديث «لا ترفع عصاك عنهم أدبًا»، وحديث «علِّق السوط حيث يراه أهل البيت»، وكلاهما ضعيف، فالأول رواه البيهقي وفي سنده انقطاع، ورواه الطبراني في الكبير وفي سنده عمرو بن واقد القرشي، وهو كذاب. أما الثاني فطرقه كلها ضعيفة.
بل إن هناك من الأحاديث ما يحمل إشارة استهجان للرجل الذي يضرب زوجته، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم في صحيحه: «إِلَى مَتَى يُجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْأَمَةِ، وَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ!».
أما بالنسبة للدوافع النفسية التي تؤدي لانتهاج منهج ضرب الزوجات من قبل أزواجهن، وتوسعهم في استخدام هذه الرخصة المقيدة، فتتعدد وتتنوع بتنوع الشخصيات والخلفيات النفسية والفكرية والاجتماعية لكل من الرجال والنساء.
فكثير من الزوجات يكنّ هن المتسببات فيما يلحق بهن من ضرب وأذى من قبل أزواجهن، نتيجة لعنادهن أو سوء سلوكهن. كما أن بعض النساء قد يفسرن حِلم الزوج وتجاوزه عن أخطاء زوجته بأنه ناتج عن ضعف منه وعدم قدرة، فيتمادين فيما يستفز الزوج، مما يسبب على المدى الطويل ما يشبه الانتفاضة الزوجية التي لا تحمد عواقبها.
ومن عجيب ما قرأتُ في هذا الموضوع أن بعض النساء يعجبهن أن يُضربن من أزواجهن! لا لكونهن مازوخيات، ولكن لحبهن للحظة الصلح بينهن وبين أزواجهن؛ حيث غالبًا ما يأتيها الزوج بهدايا تحبها، ويغدق عليها بالكلمات المعسولة التي تفتقدها في الأحوال العادية!
كما أن بعضهن يتلذذ بالإحساس بقوة الزوج وصرامته، ويحدث هذا غالبًا عند الفتيات اللاتي عشن في كنف أب ضعيف وأم متسلطة. وقد يتطور هذا إلى تكريس المازوخية عند بعضهن.
أما الرجال، فقد تدفعهم الرغبة في إثبات الذات –والرجولة أحيانًا– والتعويض عن الضعف الاجتماعي وعدم قدرتهم على التنفيس عن غضبهم من رؤسائهم في العمل مثلًا إلى التوسع في رخصة الضرب.
وإذا أردنا السعي نحو إدراك صحيح لهذه الممارسة ووضعها في شكلها الصحي، بعيدًا عن الإدراكات المَرَضية من الطرفين، فإنه يجب أن نعي الآتي:
1. حق الرجل في تأديب زوجته باستخدام الضرب ثابت، ولكنه ليس حقًّا مطلقًا؛ بل هو مقيد بالضوابط والقيود المذكورة آنفًا.
2. التوسع والتجاوز في استخدام هذا الحق من قبل الرجل، وخضوع المرأة لهذا التجاوز وقبولها له يجعل من المرأة كائنًا غير سوي، منزوع الكرامة، يستعذب الألم، ويستروح الإهانة، وتتكرس فيه المازوخية التي أشرتُ إليها، والأبشع من ذلك أن هذا الإدراك وهذه الممارسة سيتم توريثها للأجيال التي ستربيها، حيث ترضع بناتها –وأيضًا أبناءها– المهانة والضعف والمذلة.
3. للتوسع والتجاوز في استخدام حق الضرب آثار سيئة على الرجل أيضًا، حيث يكرس لديه النزعات النرجسية، ويضخم لديه الخيالات الذكورية المريضة، ولهذا تأثيراته على بنية شخصية الرجل، حيث ينسى إزاء حالة تضخم الذات التي يعاني منها أن عليه واجبات ينبغي أن يقوم بها تجاه هذا الكائن المسمى زوجته، وأنها إنسان مثله له مشاعره وأحاسيسه المعتبرة والمحترمة.
4. من المهم –بل من الضروري– إيجاد آليات تستطيع من خلالها المرأة الدفاع عن نفسها إزاء تعرضها لظلم الرجل وتجاوزه في استعمال حق الضرب المقيد، وتحفظ لها حقوقها، حتى لا تضطر للتنازل والخضوع أمام زوجها المتعدي للاحتفاظ مثلًا بحضانة أولادها، كما حدث مع سيدات كثيرات.
مما سبق يتبين لك أخي العزيز أن الله -عز وجل- ما شرع شيئًا ينافي الفطرة البشرية أو يتعارض معها، ولعلك تندهش –كما اندهشتُ– عندما تعلم أن في بعض استطلاعات الرأي التي أجريت في العالم العربي وجد أن الغالبية من النساء يوافقن على ضرب أزواجهن لهن في حالة عدم إطاعتهن لأوامرهم!
من هذا يتبين أن الضرب «المنضبط» مقبول من قبل الغالبية من النساء كوسيلة للتأديب. وليس في الأمر –على طبيعته– علاقة بالمازوخية؛ لأن المازوخية تعبر عن انحراف نفسي في الشخصية، ولا يعد قبول المرأة لهذا النمط من التعامل انحرافًا نفسيًّا؛ بل هو قبول منطقي، مشروط ومحمي بضوابط ربانية واجتماعية، وهذه الشروط هي التي تجعل هذا النمط من التعامل بين الزوجين استثناءً نادر الحدوث في الحالات التي يتمتع أصحابها باستواء نفسي، وليس الوسيلة الوحيدة للتعامل.
ويمكنني القول: إن الضرب «المنضبط» قد يكون في بعض الحالات كالملح الذي يضاف إلى الطعام باعتدال وعلى قدر الضرورة، ليعتدل مذاقه ويطيب أكله، فإذا زاد عن حده أو انعدم نهائيًّا فسد الطعام كلية وأصبح لا يطاق. ولا يعني هذا التشبيه ضرورة لجوء الزوج أو وصوله إلى الضرب حتمًا، فقد تتخلى الزوجة عن نشوزها وتصلح عيبها بمجرد نصحها أو هجرها لأيام. وهذا يرد على تساؤلك حول لزوم الضرب لدور الرجل.
مع ملاحظة أنني أتكلم عن الحالات السوية، وليس عن الحالات المرضية التي أشرتُ لبعضها في بداية كلامي.
أخيرًا، أقترح عليك –أخي الكريم– وأنت في حوارك مع من يثير هذه الشبهة أن تحمل على عاتقك بيان المفاهيم الشرعية الصحيحة، وأحكام الإسلام النقية، من خلال الممارسات الواقعية عبر التاريخ الإسلامي الناصع، وتأخذه بعيدًا عن القراءة المتعسفة للنصوص، والانتقاء الظالم والمتحيز للأحداث والوقائع غير الثابتة ووضعها في بؤرة الاهتمام والإظهار، وبعيدًا عن إلصاق الظلم الذي فرضته التقاليد الخارجة من رحم الثقافة الذكورية بالإسلام وشريعته.
أسأل الله -عز وجل- أن أكون وُفِّقت في الإجابة على تساؤلاتك، وأشكرك مرة أخرى، ومرحبًا بك دائمًا.