الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : المراهقون
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
185 - رقم الاستشارة : 2230
29/07/2025
السلام عليكم يا دكتورة،
أنا أب لطفل عنده ١٣ سنة، وعايز آخد رأيك لإنّي بجد بقيت مش عارف أتصرف إزاي.
ابني من صغره، من أول ما بدأ يتكلم، وهو بيكدب! كدب مستمر من غير سبب، كدب في الكبير والصغير، وبيكدب حتى في الحاجات اللي ملهاش لازمة خالص.
يعني مثلًا لو سألته: "أنت أكلت؟" وهو لسه بيأكل قدامي، يقول: "لا، ما كلتش!"
ولو حاجة اتكسرت في البيت، يقول: "أنا ماليش دعوة" وهو اللي عاملها، وأوقات كتير بيكدب علشان يهرب من العقاب أو علشان يخلّيني أمدحه، يعني يقوللي: "أنا جبت أعلى درجة"، ولما أسأل المدرسة ألاقيه سقط في الامتحان!
حاولت معاه كل الطرق:
زعلت منه، وضربته، وحرمتُه من حاجات بيحبها، واتكلمت معاه بهدوء كتير، وقلتله الكذب حرام وربنا هيعاقب عليه، بس مفيش فايدة.
اللي مخليني قلقان أكتر إن الموضوع بيزيد مش بيقل، وكل ما بيكبر بيخترع كدب أعقد، وبقى عنده مهارة في تأليف القصص بشكل مرعب!
وأنا بجد بدأت أشك، هو اتعوّد يكدب؟ ولا هو مريض؟
هل ده اضطراب ولا ده سلوك ممكن يتصلح؟
أنا مش عايز أكرهه ولا أعامله إنه مجرم، بس في نفس الوقت مش قادر أصدق ولا كلمة بيقولها، والثقة بينا بتتدمر يوم عن يوم.
ساعديني أفهم ابني وازاي أقدر أغير سلوكه ده قبل ما يكبر عليه أكتر من كده.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
أُقدّر جدًّا حرصك على تربية ابنك تربية سليمة، كما أقدّر قلقك النابع من حبك وخوفك عليه. وثق تمامًا أن مجرد إدراكك لخطورة هذا السلوك وسعيك للإصلاح يُعد أول خطوة حقيقية في طريق العلاج، فشكرًا لك على أمانتك وشجاعتك.
اسمح لي أن أبدأ أولًا بأن أوضح لك أن الكذب عند الأطفال والمراهقين له جذورٌ مختلفة، ولا يُعد دائمًا مؤشرًا على خلل أخلاقي أو انحراف نفسي. بل هو سلوك مكتسَب (Learned Behavior) قد ينشأ عن عوامل تربوية، أو تجارب متكرّرة يتعلّم منها الطفل أن الكذب "ينقذه" أو "يجلب له مكاسب"، فيستمر فيه دون إدراك لعواقبه.
أولًا: لنبدأ بفهم الدافع وراء الكذب..
في هذه السن، (١٣ سنة)، يكون الابن قد دخل مرحلة المراهقة المبكرة، وهي مرحلة تتسم بمحاولة إثبات الذات، والسعي للاستقلالية، واختبار الحدود. ولذا، قد يلجأ للكذب لأسباب منها:
- الخوف من العقاب، نتيجة أسلوب تربوي صارم سابق.
- أو الرغبة في نيل التقدير والاهتمام من الأهل أو الأقران.
- وربما الهروب من الضغوط الأسرية أو الدراسية.
- أو أحيانًا: التقليد، خاصة إن لاحظ أحد الوالدين لا يلتزم بالصدق تمامًا، حتى وإن بدا ذلك من باب المزاح أو التجميل.
وهنا اسمح لي أن أؤكد:
أن الكذب المتكرر لا يعني بالضرورة "اضطرابًا نفسيًّا" مثل الكذب المرضي Pathological Lying ، إلا إذا كان مصحوبًا بسلوكيات أخرى مقلقة كالسرقة، أو العنف، أو التلاعب العدواني بالآخرين. لكن من وصفك، يبدو أن المشكلة حتى الآن سلوكية بالأساس، وليست مرضية.
ثانيًا: علينا أن نقف وقفة تأمل في التربية المبكرة..
حضرتك ذكرت أنه "بيكدب من وهو صغير"، وهذا معناه أن الطفل نشأ في بيئة -غالبًا دون قصد– فيها كذب "مقبول" أو "مُجازى عليه"، بمعنى أن الكذب أنقذه من العقاب أو جلب له انتباهًا أو تشجيعًا.
وتذكر هنا حديث رسول الله ﷺ: "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ، لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ". فالكذب مهما بدا بسيطًا، له أثر بالغ على النفس والروح والتربية. ولذلك، نحن الآن لا نعالج "الطفل الحالي"، بل "التجارب المتراكمة" التي علّمته أن الكذب طريق مريح أو مربح.
ثالثًا: من الضرورى اتباع هذه الخطوات للعلاج التربوي والنفسي:
1- لإعادة بناء الثقة بينكما تدريجيًّا..
ابدأ معه علاقة جديدة تقوم على الحوار المفتوح دون تهديد.
أخبره صراحةً أنك "تحبّه حتى لو أخطأ"، وأنه مهما قال من صدق، لن تقابله بالإهانة، بل بالفهم والتوجيه. فما نحتاجه هو مرفق أمن (Secure Attachment) وليس، الخوف (Fear-based Discipline).
2- لا بد أيضًا تعليمه الفرق بين الصدق والكذب في الواقع لا بالكلمات فقط..
استخدم قصصًا حقيقية وأمثلة من الحياة تظهر أن "الصدق يُنجي"، كما جاء في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، حين نجا بصدقه في غزوة تبوك، رغم أن المنافقين نجوا ظاهريًّا بكذبهم، لكنهم هلكوا.
3- كذلك من الضرورى والمهم جدًّا، تجنّب العقاب الجسدي أو الإذلال..
لأن هذا يُعيده لحالة الدفاع عن النفس بالكذب، بدلًا من مواجهته للحقيقة. فأسلوب التكيف على الخوف Fear Conditioning قد يُوقِف السلوك ظاهريًّا، لكن لا يُعالج دافعه.
4- من الأمور المستحبة أيضًا، مكافأة الصدق بوعي وتدرّج..
أي أنه عند كل مرة يعترف فيها بصدق، امدحه، حتى لو كان الأمر محرجًا أو فيه خطأ.
هذا يُعلّم العقل أن الصدق له مكافأة حقيقية، وهو أساس التعديل السلوكي.
5- جميل أيضًا إشراكه في نقاشات عن القيم والأمانة..
اجعله يستشعر أثر كذبه على من حوله: كيف تهتز الثقة، وكيف يشعر الآخرون بالخذلان.
وهذا جزء من تطوير التعاطف أو الـ Empathy.
6- كذلك احرص على المتابعة اليومية بصبر وتجنب المراقبة الخانقة..
فكن حاضرًا في حياته، دون أن تُشعره بأنه دائمًا تحت "التحقيق". الصلة العاطفية المستمرة أهم من الضبط اللحظي (وخاصة مع بداية سن المراهقة).
* ملحوظة:
في حالات الكذب المتقَن أو المؤذي: يُستحسن الاستعانة بأخصائي نفسي تربوي.. خاصة إن لاحظت أنه يختلق قصصًا كبيرة، أو لا يُظهر ندمًا بعد انكشاف الكذب. وذلك لمساعدته على فهم الأفكار وراء سلوكه، وتعلم طرق أفضل للتفاعل.
* همسة أخيرة لك أيها الأب الكريم:
ابنك ليس "كذابًا"، بل هو إنسان اكتسب عادة سيئة، ويمكن بإذن الله تعديلها. وبدلًا من أن تراه "كذّابًا"، ابدأ برؤيته كـ "طفل خائف" أو "محتاج للقبول"، وستجد قلبك يرقّ، وطريقتك معه تتغيّر. قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾... وقال ﷺ: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، والصدق من أعلاها، فلنغرسه بحب وصبر لا بعقاب وخوف.