الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : الأطفال
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
39 - رقم الاستشارة : 2969
14/10/2025
ابني عمره ثماني سنوات، ومن فترة بدأت ألاحظ أنه يأكل بشراهة كبيرة طوال اليوم، حتى دون أن يكون جائعًا فعلاً. كلما جلس أمام التلفاز أو شعر بالملل، يلجأ للطعام، خصوصًا الحلويات والمقرمشات.
حاولت أكثر من مرة أن أُقلّل له الكميات أو أُقنعه بأن يهتم بصحته، لكنه يغضب كثيرًا، وأحيانًا يبكي ويشعر أنني أحرمه.
الآن أصبح وزنه زائدًا عن أقرانه بشكل ملحوظ، وبدأ بعض زملائه في المدرسة يسخرون منه، مما جعله ينعزل ويكره الذهاب إلى المدرسة.
أنا محتار جدًا؛ لا أريد أن أجرحه بالكلام، ولا أريد أن أتركه يتأذى أكثر. فكيف أتعامل معه؟ وهل المشكلة في الطعام أم في نفسيته؟ وكيف أساعده دون أن أزيد من ألمه أو شعوره بالنقص؟
أيها الأب الكريم،
أقدّر جدًّا وعيك واهتمامك بابنك، فمجرد ملاحظتك لمشكلته ومحاولتك البحث عن حل تربوي متزن، يُعد خطوة عظيمة نحو الإصلاح.
إن ما يعانيه طفلك لا يُختزل في شراهة طعام فقط، بل هو سلوك تعبيري نفسي (Psychological Expression Behavior)، أي أن الطعام أصبح وسيلة للتعبير عن مشاعر غير مفسَّرة داخله، وليس مجرد حاجة جسدية.
الفهم النفسي للمشكلة
الأكل الزائد عند الأطفال في هذا العمر غالبًا يرتبط بعدة عوامل نفسية وسلوكية، منها:
1- البحث عن الأمان العاطفي (Emotional Security)، فالطفل قد يجد في الطعام راحة بديلة عن الاحتضان أو التواصل الأسري الدافئ.
2- الملل أو الفراغ، وهو من أكثر الأسباب شيوعًا؛ إذ يتحول الطعام إلى وسيلة تسلية أو تهدئة.
3- الارتباط الشرطي (Conditioned Association) بين الطعام والمكافأة، كأن يُكافأ بالأكل أو الحلوى عند نجاحه، فيربط السعادة بالطعام.
4- الضغوط النفسية: وغالبًا في هذا العمر تكون ناتجة عن الدراسة أو التنمر، والتي تدفعه لتعويض مشاعره بالطعام، كنوع من الهروب العاطفي (Emotional Escape). لذلك، يجب أن يُفهم السلوك قبل أن يُعدَّل، وأن يُعالج الأصل قبل العرض.
التأثيرات النفسية للبدانة والتنمر
البدانة في الطفولة لا تؤذي الجسد فقط، بل قد تُحدث اضطرابًا في مفهوم الذات (Self-Concept Distortion)؛ ما يولّد لديه شعورًا بالنقص وفقدان الثقة بالنفس.
أما التنمر في المدرسة فيزيد من ترسيخ هذا الشعور، فينعزل الطفل، ويهرب مجددًا إلى الطعام كوسيلة تعويضية. قال النبي ﷺ: "لا يُؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه"، وهذا المبدأ النبوي يعلّمنا ضرورة تربية الطفل على احترام الجسد واحترام الآخر والتسليم بالاختلاف، لا أن يتربى على السخرية منه.
منهج التعامل التربوي السليم
1- ابدأ بالاحتواء لا بالمنع.. لا تبدأ معه بالنقد أو التحريم الفجائي، بل بالحوار الهادئ.
قل له مثلاً: "أنا أحبك وأريدك قويًّا وصحيًّا، مش لأنك سمين أو رفيع، لكن لأنك غالٍ عندي".
2- غيّر البيئة لا السلوك فقط.. لا تجعل المأكولات غير الصحية متاحة أمامه دائمًا، واستبدل بها خيارات مشبعة وصحية. فالتربية ليست أوامر، بل بيئة موجهة.
3- ابدأ معه نشاطًا مشتركًا.. اشترك معه في رياضة ممتعة كالمشي أو ركوب الدراجة، فالأطفال يتفاعلون أكثر حين يشعرون أن والدهم يشاركهم لا يأمرهم. هذا يُسمى في علم النفس التربوي النموذج السلوكي الإيجابي (Positive Modeling).
4- راقب الأوقات الانفعالية.. لاحظ متى يأكل أكثر - عند الغضب؟ عند الملل؟ بعد المدرسة؟ فهذه المفاتيح ستكشف سبب الشراهة الحقيقي. بدلاً من الطعام، شجّعه على التعبير عن مشاعره بالكلام أو الرسم أو اللعب.
5- لا بد من تعاون مع المدرسة.. تواصل مع معلميه واطلب منهم أن يراقبوا التعامل بين زملائه، ويمنعوا التنمر برفق وتربية، فذلك من صميم الذكاء الاجتماعي الذي يجب أن يُنمّى لديهم.
6- احكي له قصصًا تحفّزه لا تُخيفه: كأن تقول له: "في يوم من الأيام، قرر بطل صغير أن يحافظ على جسده ليصبح قويًّا مثل الأبطال"؛ فالخيال الإيجابي لدى الأطفال يحفّز التغيير أكثر من التوجيه المباشر.
7- علمه أيضًا أن الإسلام جعل الجسد أمانة، فقال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾، فعلّمه أن الاعتدال في الطعام عبادة، وأن القوة والصحة رزق من الله ينبغي الحفاظ عليه. اجعل ذلك دائما حوارًا إيمانيًّا بسيطًا لا وعظًا جافًّا، حتى يتصل في ذهنه بين العبادة والسلوك الصحي.
وأخيرًا، أيها الأب الفاضل، ابنك لا يحتاج من يهاجمه على وزنه، بل من يمسك بيده ليرى نفسه أجمل وأقوى. غذِّ عقله بالمحبة، وقلبه بالأمان، وجسده بالاعتدال، وستجد الشراهة تنحسر تدريجيًّا لأنك أصلحت المنبع لا المظهر.
* همسة أخيرة:
"القوة ليست في الشبع أو امتلاء البطن، بل في ضبط النفس"، اجعل هذا المبدأ عنوانًا تربويًّا في بيتك، فالتوازن هو أول طريق الصحة النفسية والجسدية.
روابط ذات صلة:
أُذن ابني مختلفة.. كيف أعالجه من آثار التنمر؟!
حماتي تتنمر عليَّ أنا وأبنائي.. كيف أتصرف؟!
طفلي يزداد سمنة وشراهة للطعام.. كيف أتعامل؟!!
ظاهرة التنمر في المدارس ومواقع التواصل