الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : الأطفال
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
228 - رقم الاستشارة : 2142
19/07/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا أم لطفل عمره ٧ سنوات، وهو وحيدي حاليًا. ابني في الصف الثاني الابتدائي، ولله الحمد هو ذكي ومجتهد في دراسته، وطيب القلب ويحب مساعدتي في المنزل، لكن لدي مشكلة تؤرقني جدًا وتؤثر على نفسيته وصحته، بل وعلى ثقتي كأم.
ابني يعاني من شراهة شديدة في الأكل، فهو لا يكتفي أبدًا بكميات الطعام العادية، ودائمًا يطلب المزيد، خصوصًا من الحلوى والمخبوزات والمقليات. وإذا حاولت منعه أو تأخير الوجبة، يدخل في نوبة بكاء شديدة، أو ينعزل في غرفته ويغضب. أحيانًا يسرق الطعام من الثلاجة ليلاً ويأكله دون علمي، وقد وجدته أكثر من مرة يُخفي الحلويات في حقيبته المدرسية أو بين ملابسه.
كنت أظن أن الأمر عابر، ولكن وزنه ازداد بشكل ملحوظ خلال الشهور الماضية، لدرجة أن طبيبة الأطفال أخبرتني بأنه أصبح في بداية السمنة، وأن وزنه الآن لا يتناسب أبدًا مع عمره أو طوله، وطلبت مني السيطرة على الأمر بسرعة.
حاولت منع الحلويات تمامًا، فازداد تمسكه بها أكثر. حاولت إشغاله بأنشطة، ولكنه يعود للطعام كوسيلة للراحة كلما شعر بالملل أو التوتر أو حتى الفرح!
والده لا يلاحظ هذه الأمور كثيرًا، بل أحيانًا يجامله ببعض الأطعمة المحببة له مما يزيد المشكلة.
أنا الآن حائرة جدًا، كيف أساعد ابني على التخلص من شراهته دون أن أسبب له عقدة أو أؤثر على ثقته بنفسه؟ كيف أضبط سلوكه الغذائي بطريقة تربوية نفسية سليمة؟ وهل من الممكن أن يكون هناك سبب نفسي وراء هذا السلوك؟
أرجو مساعدتي فأنا خائفة عليه من أن يكبر بهذه العادة ويعاني منها طول حياته.
جزاكم الله خيرًا.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
مرحبًا بكِ يا أيتها الأم الطيبة والواعية، وأسأل الله أن يجعل عنايتك بابنك في ميزان حسناتك، وأن يرزقك السداد والحكمة في تربيته.
أولًا: أود أن أهنئك على وعيك وإدراكك المبكر للمشكلة؛ فالكثير من الأمهات يغفلن عن هذه الأمور حتى تتفاقم وتُصبح عادة مزمنة. وصدقيني، ما دمتِ تسعين اليوم للبحث عن حل، فأنتِ قد قطعتِ نصف الطريق نحو التغيير، بإذن الله.
ثانيًا: لنتفق أن الشراهة الغذائية لدى الأطفال ليست مجرد سلوك عابر، بل هي – في كثير من الأحيان – وسيلة تعبير غير مباشرة عن احتياج نفسي داخلي، أو استجابة غير سوية لمثيرات بيئية أو أسرية. وهذا ما يُعرف في علم النفس بمصطلح: "Emotional Eating"، أي: "الأكل الانفعالي"، حيث يتناول الطفل الطعام، لا لأنه جائع فعليًّا، بل لأنه يحاول إشباع فراغ عاطفي، أو تهدئة قلق داخلي، أو مكافأة ذاته.
ومن خلال وصفك، يتضح أن طفلك يستخدم الطعام كـوسيلة تهدئة ذاتية أو self-soothing، وخصوصًا عند الانفعال أو الفراغ أو حتى الفرح، وهذه دلالة على أن لديه ارتباطًا غير متوازن بالأكل.
وقد تكون هناك محفزات داخل الأسرة (كالتدليل الزائد، أو التوترات، أو المكافآت الغذائية) هي التي تدعم هذا الارتباط اللاواعي بين المشاعر والطعام.
أيضًا، من المهم ملاحظة أن الطفل في هذا العمر يكون في طور بناء مفهومه عن الذات self-concept، وسخرية الآخرين أو توجيه النقد الجسدي له قد تؤدي إلى ترسيخ صورة سلبية عن نفسه (Negative Body Image)، وهذا بدوره قد يُفاقم المشكلة.
إذًا كيف نبدأ من الجذور بخطة علاجية متكاملة: تربوية – نفسية – أسرية
أولًا: لا تقمعوه بل غيّروا المفهوم..
فلا تُركّزي على حرمان الطفل من الطعام، بل على تعديل علاقته بالأكل.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ...».
استخدمي هذا الحديث بأسلوب حواري بسيط لتفهيمه أن المعدة مثل الكوب، إن امتلأت أكثر من اللازم، تتعب.
ثانيًا: في علم النفس التربوي، يُوصى دائمًا بمساعدة الطفل على التعبير عن مشاعره لفظيًّا بدلًا من تفريغها سلوكيًّا. وهي تقنية "Name it to tame it": أي "سمِّ المشاعر لتروّضها". لذا دربيه على أن يُميز بين "أنا جائع" و"أنا قَلِق" أو "أنا حزين" أو "أنا محتاج لحضن".
ثالثًا: جميل فعلك بإشغال يده وعقله بأنشطة ممتعة، فاستمري على ذلك.. حيث إن الطفل، كلما شعر بالفراغ، بحث عن مكافأة حسّية، لذا وفّري له بدائل:
– الرسم،
– الألعاب الحركية،
– التمثيل والخيال،
– قراءة القصص.
سمي هذه الأوقات: "أوقات الطاقة الجميلة"، واجعليها عادة يومية.
رابعًا: لا بد من ضبط بيئة الطعام في المنزل..
– لا تحتفظي بكميات كبيرة من الحلويات في متناوله.
– نظّمي الوجبات، واجعلي الطعام داخل المنزل ذا السعرات المنخفضة، وفي أوقات محددة فقط.
– شاركيه إعداد الطعام الصحي، فالطفل الذي يُعد طعامه، يحبّه.
فهذه آلية من آليات "Food Literacy"، أي تنمية وعي الطفل بالغذاء وتكوينه، مما يُقلل من شراهته.
خامسًا: إياكم واستخدام الطعام كمكافأة..
توقفوا فورًا عن ربط الطعام بالسلوك الجيد أو كوسيلة تهدئة، فهذا يُعزز الأكل العاطفي.
سادسًا: يجب ألا تهملي الحديث مع الأب في هذا الأمر..
تحدثي بلُطف مع والده وأشركيه في خطة التغيير؛ فالطفل إذا وجد تناقضًا بينكما، فسيلجأ إلى من يُعطيه الأمان الغذائي.
فالتربية السوية يا حبيبتي، تتطلب وحدة الجبهة التربوية، أو ما يعرف بالـ "Parental Alignment".
سابعًا: أشركي ابنك في القرار..
دعيه يضع معك خطة غذائية ملونة فيها أيام للحلوى وأيام للطعام الصحي.
امنحيه الإحساس بالتحكم؛ لأنه يشعر داخليًّا أنه فاقد له، فيستعيده عبر الأكل.
ثم اجعليه يدرك المعنى الحقيقي للحفاظ على صحته وأن السمنة تؤدي إلى أخطار صحية لا قدر الله، ولا بد من أن يحافظ على صحته لأنها أمانة من الله تعالى، ومع مرور الوقت ستكون له أهدافه الأخرى التي يسعى من أجلها لخفض وزنه.
ثامنًا: احذري الوصم النفسي..
إياكِ أن تقولي له: "أنت بدين، الناس ستسخر منك"، فهذه الكلمات تُهين الذات وتزيد من توتره.
* وهمسة أخيرة لك عزيزتي الأم:
طفلكِ الآن لا يحتاج فقط لنظام غذائي، بل لاحتواء نفسي وتربية وجدانية.
كلما شعر أنكِ تفهمينه ولا تهاجمينه، سهل عليه التغيير.
وتذكري دائمًا أن: التربية ليست تقويمًا للسلوك فقط، بل هي بناءٌ للعقل، واحتضانٌ للقلب، وإرواءٌ للنفس. وإن استعنتِ بالله، فسيكون التوفيق حليفك، والنتائج ستدهشك بإذن الله.
دمتِ أمًّا صالحة واعية، ولكِ دعائي بالتيسير والتوفيق والطمأنينة.