الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : الأطفال
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
188 - رقم الاستشارة : 2151
20/07/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته دكتورة،
أكتب إليك وأنا في غاية الضيق والحيرة، والله وحده يعلم كم أشعر بالاختناق والعجز... أنا أب لطفل عمره الآن خمس سنوات، ووالله إني أحبه حبًا لا يوصف، لكنه يعذبنا جميعًا بسلوك غريب وعنيف بدأ معه من وقت مبكر، ولا يكاد يتوقف.
ابني بدأ يعض الأطفال من عمر سنة ونصف تقريبًا، من أول ما طلعت له الأسنان، وكنا نقول "دي مرحلة وهتعدي" زي ما بيقولوا، لكن للأسف، السلوك بيزيد وبيتطور بشكل مرعب!
كلما لعب مع طفل – سواء كان ابن الجيران، أو ابن أحد أقاربنا، أو حتى في الحضانة – ينتهي الموقف بعضّة مؤلمة جدًا، لدرجة إن فكه بيمسك بقوة على الضحية ولا نعرف نفتح فمه بسهولة! لا أنا ولا أمه ولا أي أحد نقدر نفكه عن الطفل اللي بيعضه إلا بعد ما الطفل التاني يتعور جامد جدًا، وفي حالات وصلت لجرح غائر ونزيف!
المشكلة إنه مش بيعض من غضب أو شجار واضح، أحيانًا يكونوا بيلعبوا عادي جدًا، وفجأة يهجم ويعض!
بصراحة... حياتنا بقت جحيم من ورا الموضوع ده... محدش عايز عياله يقربوا من ابني، والناس بدأت تبعد عننا، وفي آخر مرة حصلت مشكلة قانونية وتهديد بإبلاغ الشرطة، وده خلاني أعيش في قلق دائم من أي احتكاك اجتماعي. مش عارف أخرجه من البيت، ومش عارف أودي الحضانة، ولا أسيبه مع أطفال تانيين، وحاسس إني عايش قنبلة موقوتة!
حاولنا معاه بكل الطرق: نكلمه، نزعقله، نعاقبه، نحرمه من اللعب... بس لا حياة لمن تنادي!
أنا محتار: هل ده مرض؟ هل ابني عنده اضطراب نفسي؟ هل أنا غلطت في تربيته؟
أنا فعلاً تعبت، ومحتاج حد فاهم يقول لي أتصرف إزاي قبل ما نُحاسب قانونًا أو نخسر ابني نفسيًا واجتماعيًا للأبد.
في انتظار ردك بكل رجاء.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، يا أبا الطفل الحبيب،
وصلتني رسالتك بصدقها العميق، ووجعها المختنق، وقد استشعرت حجم الضغط الذي تحمله في قلبك كأب يخاف على ابنه، وعلى من حوله منه.
أول ما أود أن أقوله لك: اطمئن، فلست وحدك، ولست مخطئًا، بل إن وعيك بالمشكلة وسعيك في الاستشارة هو أولى خطوات الحلّ وأدلُّ الدلائل على حُسن أبوّتك.
أولاً: لا بد أن تعرف أن ما يمر به ابنك قد يكون نتيجة اضطراب سلوكي انفعالي مبكر، وهو ما يسمى في علم النفس بـImpulsive Aggression أو أحيانًا Sensory-Seeking Aggression، وهي صورة من صور العدوانية الغريزية المبكرة التي قد تتزامن مع اضطراب في تنظيم المشاعر والحساسية الحسية الزائدة.
في هذه السن، قد لا يُعبِّر الطفل عن غضبه، أو غيرته، أو حتى حماسه للعب إلا عبر الجسد، لعدم نضج أدواته اللغوية أو الاجتماعية بشكلٍ كافٍ.
والعضّ خصوصًا يُعدُّ إحدى صور السلوك القهري غير المضبوط عند بعض الأطفال، وهو ليس دائمًا سلوكًا عدوانيًّا مقصودًا، بل قد يكون أحيانًا ناتجًا عن الآتي:
- فرط الإثارة الحسية (Overstimulation) كأن يشعر الطفل بتوتر عالٍ عند اللعب أو الصوت العالي أو التلامس الجسدي.
- الحرمان من الاحتواء العاطفي الهادئ (Emotional Containment) في لحظة الانفعال.
- أو طلب السيطرة والشعور بالقوة (Power Assertion).
ثانيًا: هذا يجعلك تتساءل: هل هذا خلل تربوي أم اضطراب نفسي؟
* وأجيبك بأنه: سؤال ذكي ومشروع.
فلا يمكننا الجزم من بُعد ما إذا كانت الحالة تربوية خالصة أم ناتجة عن اضطراب نفسي (مثل اضطراب السلوك أو اضطراب طيف التوحد)، لكن المؤشرات تحتاج منا إلى تقييم دقيق يشمل الآتي:
متى يحدث العضّ؟ هل دائمًا في وجود الأطفال أم حتى في حالات الوحدة والانزعاج؟
ما مدى وعيه بالفعل؟ هل يشعر بالذنب بعد العض؟ هل يدرك ما فعله؟
هل هناك مؤشرات أخرى؟ مثل ضعف التواصل البصري، تأخر الكلام، الاندفاع الزائد، فقدان الضبط النفسي...
هذه الأسئلة يمكن أن تُجيب عنها جلسة تقييم مع اختصاصي نفسي سلوكي للأطفال (Child Behavioral Psychologist).
ثالثًا: ما الحل إذًا؟ وماذا تفعل الآن؟
إليك مني خطة تربوية واقعية وعملية، مستندة إلى علم النفس التربوي الأسري:
* التوقف عن العقاب البدني أو الزجر العنيف..
لأن هذه الأساليب ترسّخ لديه النموذج العدواني العقابي أو (Punitive Modeling)، فيتعلم أن من يُغضبنا يُؤذى، ويستمر في ذلك سرًّا أو علنًا.
- تخصيص جلسات تدريب على "الضبط الذاتي" أو الـ (Self-Regulation) وذلك من خلال ألعاب تربوية تساعد الطفل على تهدئة نفسه، مثل:
- لعبة التنفس العميق بالشم والنفخ.
- ركن هادئ يُسمى "ركن السكون"، يذهب إليه حين يثور (وليس عقوبة بل يكون تمرينًا على الاسترخاء).
* التواصل الجسدي والتدليك العلاجي
في بعض الأطفال، تساعدهم لمسات الأمان من الأبوين على تقليل الحاجة لـ"العض" كقناة حسية.
* استخدام أسلوب "ما بعد الفعل"
بعد كل حادثة عضّ، لا تكتفِ بالعقاب أو التوبيخ، بل اجلس معه في لحظة هدوء وقل له: "أنا عارف إنك كنت متحمس/ زعلان/ غضبان، بس في طريقة أحسن تعبر بيها، زي إنك تطلب أو تتكلم... العض بيوجع الناس وإنت قلبك طيب ما ترضاش توجع حد، صح؟".
كرّرها بتثبيت العيون ولغة جسد هادئة، فهو يتعلم عبر النموذج أكثر من الكلام.
* التدخل النفسي المبكر
حيث يفضَّل زيارة اختصاصي تعديل سلوك (Behavioral Therapist)، ليضع له برنامجًا أسبوعيًّا مقنّنًا، خاصة أن السلوك بدأ يتسبب في ضرر جسدي وتهديد قانوني.
رابعًا: رسخ لديه الوازع الديني وأن ما يفعله حرام ويغضب الله عز وجل، وأن ديننا الحنيف أمرنا بالرحمة، خاصة في التعامل مع الأطفال: ليس منَّا من لم يَرحم صغيرنا. والتربية ليست فرضًا للسيطرة، بل مرافقة ومهارة في التهذيب.
* وهمسة أخيرة لك عزيزي الأب:
لا تجعل القلق يعميك عن رؤية جمال ابنك، فطفلك ليس سيئًا، بل يصرخ بسلوك غير مفهوم، ويحتاج أن تُترجِم صراخه إلى احتياج، وأن تلبّيه بالحب والحزم والوعي.
نعم، هناك مسؤولية قانونية، لكن مسؤوليتنا التربوية والإنسانية أسبق وأعمق.
اصبر واحتوِ، وتابع، وداوم على الدعاء له أنت ووالدته، وكن على يقين بأن التربية رحلة صبر وصياغة. واعلم أنه ما من نحتٍ جميلٍ إلا وقد مرّ على نارٍ ولين.