الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : شبهات وردود
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
158 - رقم الاستشارة : 2366
13/08/2025
نلاحظ في مواجهة مشروع المقاومة استدعاء التراث وتوظيفه لكسر المقاومة، فهل هذه الفكرة صحيحة؟ وهل تم اللجوء إليها في التجارب التاريخية؟
في البداية أشكركم على هذا السؤال الذي يكشف جانبًا من التوظيف الاستعماري لكل ما يستطيعه من وسائل وأدوات لتحقيق هيمنته على الشعوب المستضعفة، وهذا الاستغلال قديم في حقيقته، متجدد في أشكاله ووسائله.
وفي تلك الاستشارة سوف نركز على ملمح استغلال التراث لإجهاض مشروع المقاومة، وإنتاج ما يمكن تسميته "ثقافة الاستسلام" أو "قبول الهزيمة".
التراث إطار واسع يشمل العادات والتقاليد والفنون والفولكلور والأساطير والأدب والحرف والمهارات، وهو أحد مكونات تشكيل الهوية، وأحد تجليات ظهورها وتجسيدها في الواقع، وهو أحد عوامل تشكل الوعي الذاتي، وفهم الآخر، وهو ركن أساسي في الثقافة.
أدركت القوى الاستعمارية والدول الكبرى أهمية ودور التراث في المقاومة ضد الاحتلال، وفي مقاومة مشروعات الهيمنة والاستغلال، ورأت تلك القوى أن وجودها يحتاج إلى محضن ثقافي آمن وغير معاد، ومن ثم كانت هناك حاجة مُلحة لفهم التراث والتلاعب به وتوظيفه كجزء من استراتيجية الهيمنة والاستغلال والاحتلال.
في تجربة الاستعمار الغربي في المنطقة العربية، سعى لإضعاف روح المقاومة من خلال استغلال التراث، وكانت وسيلته في ذلك الاستشراق الذي قدّم للإدارة الاستعمارية أدوات لفهم الشعوب التي خضعت للاستعمار، فلم تكن علاقة الاستشراق جهودًا لتبرير الاستعمار والاستغلال، ولكن كان الجهد الأهم هو تقديم رؤية معرفية وعلمية ومناهج لفهم تلك الشعوب وكيفية التعامل معها لإخضاعها؛ لأن المعرفة بتلك الشعوب المقهورة كانت تمثل نقطة قوة تُمكن من الاستغلال السهل.
وقد استغل الاستعمار الفرنسي لسلاح الفتوى، والتي تعد جزءًا من التراث الشرعي، ساعيًا لجعلها مانعة للمقاومة، فمع احتلال فرنسا للجزائر لم تخمد المقاومة، ولم يستطع الفرنسيون إلا بسط نفوذهم على المناطق الساحلية، ومع نمو روح المقاومة مع الأمير عبد القادر الجزائري، رأى الاحتلال أن اتباع سياسة الأرض المحروقة في الجزائر غير كاف لوأد المقاومة، ولكن عليه اقتلاع تلك الروح.
وهنا تم الاستعانة بالجاسوس الفرنسي "ليون روش" الذي كتب مذكرات له بعنوان "اثنان وثلاثون عامًا في الإسلام 1832-1864" استطاع خلال تلك الفترة فهم النسيج الثقافي والاجتماعي للجزائريين، وكان مشروعه الأساسي استغلال الفتوى لإجهاض المقاومة من خلال الحصول على فتوى من بعض الشيوخ خاصة الصوفية والتي تمنع الجزائريين من مقاومة الاستعمار، ما داموا لا يستطيعون التغلب عليه، وما دام الاستعمار لم يمنعهم من ممارسة عباداتهم.
وقد قام "روش" برحلة بدأت من الجزائر وانتهت في مكة المكرمة للحصول على تلك الفتوى المضادة للمقاومة، في رسالته للدكتوراة بعنوان "الإفتاء والمفتون في الجزائر فترة الاحتلال الفرنسي" يقول "ملاح الهواري": إن مهمة "روش" والتي بدأت في العام 1842 كانت تبتغي الحصول على توقيع علماء كبار على فتوى محتواها "أن المسلمين إذا تغلب الكافر على أرضهم ودافعوا عنها ثم عجزوا، وأصبح دفاعهم يؤدي بهم إلى التهلكة والانتحار، وكان الكافر يسمح لهم بإقامة شعائر دينهم، هل تجب عليهم الهجرة؟".
وأخذ "روش" هذا الاستفتاء، وغيّر اسمه إلى عمر، واصطحب معه أحد مشايخ التيجانية، واتجهوا إلى القيروان والقاهرة ومكة، ثم رجعوا بما أفاد ضرورة بقاء المسلمين في بلادهم، وليس عليهم حمل السلاح، ما داموا عجزوا عن الدفاع، وعليهم بالتسليم والاستسلام.
وإبان الحرب الأميركية في فيتنام، كان صمود الفيتناميين يشكل مأزقًا للقوات الأمريكية، واستدعى الأمريكيون التراث الفيتنامي لكسر المقاومة وإضعاف معنوياتها، وقد تمثل ذلك من خلال عملية عرف باسم "الروح المتجولة" أو "الروح التائهة،" وملخصها أن هناك في التراث الفيتنامي اعتقاد أن الموتى الذين لم يدفنوا في وطنهم فإن أرواحهم تتجول بلا هدف في ظل معاناتها وألمها، واستغل الأمريكيون تلك الأسطورة التراثية وقاموا بتسجيل أصوات مرعبة تتألم وتدعو الجنود الفيتناميين لترك مواقعهم والعودة لديارهم.
وكان الأمريكيون يبثون تلك الأصوات بواسطة طائرات وقوارب وأجهزة مثبتة في الغابة، ومع قدوم الليل تبدأ تلك الأصوات المخيفة في الانتشار وبث الرعب لحرمان المقاومة من النوم، وكان مما تضمنته موسيقى جنائزية بوذية وأصوات أطفال وشباب ورجال يصرخون، وجميع الأصوات تحمل رسالة واحدة مفادها اتركوا مواقعكم، ويزعم الأمريكيون أنهم حققوا نتائج إيجابية في عملية "الروح المتجولة".