الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : شبهات وردود
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
79 - رقم الاستشارة : 2607
04/09/2025
أرجو منكم أن توضحوا السبب في مهاجمة بعض الدعاة المنسوبين للإسلام يهاجمون مقاومة أهل غزة ويصفونهم بالردة والخروج عن الإسلام.. لماذا هذا التهجم على المقاومة في هذا الوقت ومن هؤلاء؟
أخي الكريم، سؤالكم يفتح جرحًا حقيقيًّا في أزمات ومشكلات العقل الديني، فهو يتحدث عن سوء فهم بعض الدعاة لحقيقة الإسلام، وانطلاقهم بسوء الفهم هذا لتبليغه للناس، وهم يحسبون أنهم يفعلون خيرًا، لكن الحقيقة أنهم يتماهون مع مشروع العدو الصهيوني وأهدافه.
دعاة ضد المقاومة
وبعيدًا عن ذكر أسماء شخصيات هؤلاء الدعاة الأدعياء، فإن ما يعنينا مقولاتهم التي تلبس الحق بالباطل، وتمارس تضليلاً معرفيًّا ودينيًّا تحت ستار من الوعظ الباهت.
أحد هؤلاء الدعاء قال بجواز هجرة الفلسطينيين من أرضهم وتركها لليهود، والأدهى أنه شبه تلك الهجرة الآثمة بهجرة النبي ﷺ من مكة إلى المدينة، وقال في فتواه البائسة: "هل الفلسطيني مخلوق ليعيش في فلسطين أم ليعبد الله"، وأبدى سخريته من عمليات المقاومة وشبهها بأنها ألعاب فيديو، وهو نفس خطاب الكيان الصهيوني الراغب في تهجير الفلسطينيين عن أراضيهم فيما يعرف بمشروع "الترانسفير" وهو الطرد المنظم للفلسطينيين من أراضيهم.
و"دعي" آخر دعا قادة المقاومة للجهاد بالسنن، زاعمًا أن الجهاد بالسنن أعظم من الجهاد بالسيوف، واضعًا الكوفية على وجهه ساخرًا من "أبو عبيدة" المتحدث باسم كتائب القسام، ووجّه نصيحة مشبوهة للمقاومة بترك الجهاد والتفرغ لتعليم أهل غزة التوحيد، وأن يعلموا النساء ارتداء الحجاب الشرعي.
و"دعي" ثالث سخر من كون أبو عبيدة ملثمًا في بياناته التي يلقيها، وطالبه أن يجاهد بالسكوت، وقال له "جاهد بالسكوت يا لكع ابن لكع.. جاهد بالصمت.. جاهد بالصمت". (ولكع ترمز إلى الشخص اللئيم).
و"دعي" رابع آخر قال "حماس شر.. هي الشر بعينه" واعتبرها حزام أمن لإسرائيل، واتهمها بأنها هي التي جلبت السفك والهدم لأهل غزة، وبأنها تدير الفتن وأنها مأجورة مخترقة مضللة.
الصهيوني الوظيفي
أخي الكريم، أقف معك على نبوءة ربما في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي تحدث فيها المفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- عن توقعه بظهور ما أسماه "الصهيوني الوظيفي"، وقال بالنص: "اليهودي الجديد أو ما أسميه الصهيوني الوظيفي سيأتي ويصلي معنا العشاء في المسجد"، حيث تنبأ أن بعض العرب والمسلمين سيكون صهيونيًّا وظيفيًّا، بمعنى يؤدي الوظائف نفسها التي كان يؤديها القائد العسكري الإسرائيلي أو التاجر اليهودي الموالي لإسرائيل، ودعا المسيري إلى أن نحلل ذلك الشخص في ضوء الوظيفة التي يقوم بها.
ويبدو أن النبوءة تحققت، لكن بقفزات أكثر مما توقع المسيري، فالبعض بات يمارس الوعظ والإرشاد للناس، وتبدو هيأته أنه من أهل الصلاح والإسلام، لكن ما أن ينطق حتى تطل من كلمات معالم الصهيونية الوظيفية التي تلعب دورًا مساندًا للمشروع الصهيوني.
وخطورة هؤلاء الدعاة تتمثل في عدة أمور، منها: أنهم يشوهون مشروع المقاومة ويؤثمون رجالها وفق رؤية دينية سطحية، ويستغل هؤلاء الدعاة شعبيتهم، وربما المساحات الواسعة المسموحة لهم بممارسة الدعوة، لبث تلك الآراء بين الجماهير، وتحت غطاء من الثقة تتسرب الرؤية الصهيونية من على المنابر إلى عقول الناس ومواقفهم، فيجد الناس أنفسهم دون أن يشعروا، وهم يتبنون الخطاب الصهيوني ويتعاطفون مع ضحايا الاحتلال والعدوان، ويبررون الانتهاكات والإبادات والتجويع الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي، والخطورة أنهم يرون ما يجري أنه ما هو إلا رد فعل طبيعي على تهور المقاومة، واصفين المقاومة بالاعتداء، وأنها هي التي جلبت ذلك الدمار.
الفهم الخاطئ للإسلام
أخي الكريم، هذا الخطاب الضال المُضل، ليس بالضرورة أن يكون مبعثه ولاء هؤلاء الدعاة للكيان الصهيوني، أو أنهم يتلقون أموالاً للتفوه بمثل هذا الكلام الأثيم، أو أنهم يخضعون لإملاء من جهات نافذة داخليًّا وخارجيًّا.
لكن في تصوري أن موقفهم يأتي انطلاقًا من فهم مشوه للإسلام، فهم يظنون أن الإسلام دين يربط الإنسان بمجموعة من العبادات والأوراد والآداب فقط دن أن يكون الإسلام دين تغيير ثوري، من أهدافه مقاومة الظلم والظالمين وبث روح الكرامة في الناس، ومجاهدة أعداء الله وأعداء الإنسانية، والدفاع عن الأرض والعرض والثروة والإنسان.
هذا التشوه الإدراكي لمفهوم الدين وحقيقته في أذهان بعض هؤلاء الأدعياء، هو ما يجعلهم يطلون علينا في الأوقات الحرجة ليمارسوا الشغب والتضليل، ويطلقوا قنابل من الدخان للتغطية على صورة العدو الحقيقي، وليجذبوا الأمة وقواها ومواردها وانشغالها إلى ساحات من الإلهاء والتضليل عن المعركة الحقيقية التي يجب أن تخوضها الأمة المسلمة.
ولعلنا هنا نستحضر المقولة العظيمة للفقيه المجاهد "العز بن عبد السلام" عندما قال: "من نزل بقريةٍ تفشى فيها الربا، فخَطَب عن الزنا، فقد خان الله ورسوله"،" إذا كان الداعية الذي يخطب في الناس ويعالج مرضًا اجتماعيًّا غير المرض المتفشي في المكان، هو في نظر الفقيه ابن عبد السلام نوع من الخيانة، فكيف بمن يثبط همة الأمة في معركتها الكبرى ضد المشروع الصهيوني، وكيف بمن يشوه صورة المقاومة والجهاد في أرض فلسطين، وكيف بمن يطلق صفة الضلال على هؤلاء الأبطال، ويسخر منهم سخرية ساقطة، وكيف بمن يصفهم بأنهم قوى الشر والخيانة، أو من يدعوهم إلى الجهاد بالصمت؟!
وقد يكون من المفيد هنا أن نستحضر فتوى صدرت في رسالة بعنوان "أسنى المتاجر وبيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر" لمؤلفها الفقيه "أحمد بن يحيى بن محمد الونشريسي التلمساني" المتوفى (914هـ)، وجاء صدور الفتوى إبان سقوط الأندلس، وطالبت بهجرة المسلمين من الأندلس، فكانت النتيجة أن هاجر القادرون على الهجرة، أما غير القادرين فبقوا تحت الخسف والاضطهاد والتنصير.
يقول المؤرخ الدكتور حسين مؤنس محقق الكتاب، عن تلك الفتوى: "مسئولية الشيوخ واضحة، إذ لم يكفهم، أن يفروا بأنفسهم مخلفين أهل دينهم، بل حرموا البقاء على من أراد من الرؤساء، وطلبوا إليهم الهجرة، ومعنى ذلك ترك الضعفاء يفعل العدو بهم ما يريد"، ووصف مؤنس تلك الفتوى بأنها غير إنسانية، وأنه كان من الواجب على هؤلاء العلماء فعل شيء لاستنقاذ الناس، وليس حضهم على الهجرة.