الإستشارة - المستشار : د. عادل عبد الله هندي
- القسم : مناهج الدعوة ووسائلها
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
41 - رقم الاستشارة : 2146
20/07/2025
أعمل داعية في بلد إسلامي، ولي صديق من الدعاة يصاحبني ويرافقني، وفيه خير كبير حسب ما أعرف عنه. لكن -للأسف الشديد- هو متصلب في رأيه كثيرًا، حتى في القضايا الخلافية يتصلّب لرأيه ويعتقد أنه هو الأصوب وهو الأصح، فبماذا تنصحونني؟ وكيف أتعامل معه؟ وكيف أدعوه إلى أن يقبل الآراء التي تخالف مذهبه، سواء كان ذلك فقهيًّا أو فكريًّا؟
أرجو أن تكون النصائح والوصايا عملية وتطبيقية، ولا تكون مدعاة لخسارة صديقي وصاحبي الذي أحبه.
أيها الأخ الحبيب، لقد فاضت كلماتك صدقًا ومحبة، وظهر في سطورك حرصٌ على الحق دون تنكُّرٍ للفضل، وغيرةٌ على الصحبة دون إلغاء للحقائق، وهذا هو سمت أهل العلم والدعوة، الذين يجمعون بين الوفاء للناس والوفاء للحق. ما أروعك إذ أحببت صاحبك، ولم تنسَ أن الحب لا يعني السكوت عن الخطأ، كما أن الإنكار لا يعني الجفاء.
وقد قال النبي ﷺ: «الدين النصيحة» وجعلها عامة لكل مسلم بقوله: «ولعامة المسلمين».
وإليك ما يأتي:
أولاً: قيمة الصحبة الدعوية وحسن الظن بالصاحب
أثنيت على صاحبك، وأحسنت في ذلك، وقد قال النبي ﷺ: «من لا يشكر الناس لا يشكر الله»، فكم من رفيق هداية كان سببًا في حفظ القلب والنفس والوقت، فلا تفرّط فيه مهما اختلفت الآراء. وتذكَّر أن الله تعالى قال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]، فمن كان قلبه موصولًا بالله، فلك فيه صبر ومقام ورفقة.
ثانيًا: الصلابة في الرأي متى تُذم؟ ومتى تُحمد؟
اعلم أن التمسك بالرأي قد يكون محمودًا إذا كان عن بصيرة وحجة ورحمة، لا عن هوى وتَعصُّب. لكن إذا كان هذا التصلب في المسائل الخلافية الظنية، حيث يسوغ فيها الخلاف بين العلماء، فإن التشدد فيها يضيق على الناس ويوقع العداوة. قال الإمام مالك رحمه الله: "كلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد، إلا صاحب هذا القبر"، وأشار إلى قبر النبي ﷺ.
وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59]، والمعنى أن ردّ النزاع يكون بالدليل، لا بالعصبية أو التحزُّب.
ثالثًا: نصائح عملية في التعامل معه دون أن تخسره
1) افتح معه باب الحوار لا باب الخصومة: لا تبدأه بالنقد المباشر، بل بالثناء الصادق: "أحب فيك غيرتك على الحق وتمسكك به، لكن هل ترى أن كل خلاف يصح فيه الجزم بقول واحد؟".
2) أهدِ له كتبًا أو مقاطع علمية عن أدب الخلاف، وهي كثيرة للغاية، ولتقرأ أنت عن التنوع الفكري.
3) اجعله يشارك في مجالس علمية متعددة؛ حيث يرى بأم عينه كيف يختلف العلماء باحترام، وكيف يحاورون برحمة لا بعناد، قال الإمام سفيان الثوري رحمه الله: "إنما العلم الرخصة من ثقة، أما التشدد فيُحسنه كل أحد".
4) ذكّره بنماذج الصحابة في اختلافهم: كاختلافهم في قوله ﷺ: «لا يصلين أحدكم العصـر إلا في بني قريظة»، ففهم بعضهم ظاهر الأمر، وآخرون فهموا المقصود، ولم يعنّف النبي أحدًا منهم، مما يدل على سعة الفهم وسعة الصدر.
5) احفظ له مكانته أمام الناس؛ فلا تُظهر له خطأه أمام الطلاب أو العامة، بل كن ناصحًا في السر، لا فاضحًا في العلن. قال ابن رجب رحمه الله: "كان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد نصحوه سرًّا، حتى لا يُذلّوه بين الناس".
رابعًا: كيف تنصحه إذا أغلق عليك النقاش؟
* قل له: "يا أخي، قد نختلف في المسائل، لكننا لا نختلف على أن الحق أوسع منّا، وأن العلماء الكبار وسّعوا ما ضيّقه غيرهم، فلا نضيّق ما وسّعه الله".
* أو قل له: "دعنا نتفق أن الحق لا يُعرف بكثرة الصراخ، بل بحجّة واضحة، وقد يكون مع أخيك ما ليس معك".
خامسًا: وصايا ختامية عملية
1. اجعل النية لله في نصحك، ولا تحمله على الرأي كرهًا.
2. حافظ على حبك له، فالقلوب إذا ارتبطت بالحب سهلت النصيحة.
3. لا تكثر من الجدال معه، بل اجعله يكتشف بنفسه مواطن السعة في الشريعة.
4. ابحث له عن شيخ يحترمه، يكون مدخلا له للحكمة والتوازن.
5. لا تدع الخلاف يحرمك من صحبته، فربما تتبدل الأيام وتكون أنت سبب تغييره.
أسأل الله أن يديم بينكما المحبة في الله، وأن يجمعكما دائمًا على كلمة سواء، وأن يُلين قلب صاحبك للحق حيث كان، وأن يثبّتك أنت على التوسط والرفق، وأن يجري على يديك خيرًا كثيرًا، وأن يُصلح بك وبصاحبك البلاد والعباد، وأن يكتب لك أجر الصادقين الناصحين.