ظاهرة البلوغ العاطفي المبكر!!

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : د. أميمة السيد
  • القسم : الأطفال
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 197
  • رقم الاستشارة : 2306
07/08/2025

البلوغ العاطفي المبكر.. صرخة من الطفولة في مشهد مؤثر، بكت طفلة بحرقة خلال حفل الفنان "الشامي"، متفاعلة مع كلمات أغنية عن الخذلان والألم. تكرر هذا المشهد في دول أخرى، مما يطرح سؤالًا جوهريًا: هل نحن أمام ظاهرة "بلوغ عاطفي مبكر" تسلب الأطفال براءتهم، وتحمّلهم مشاعر تفوق وعيهم؟ الطفلة لم تكن مذنبة، بل مرآة لبيئة رقمية تعرضها لمحتوى موجّه للكبار دون تصنيف أو رقابة.

سؤالنا لكم كمفكرين اجتماعيين: كيف نوازن بين التعبير العاطفي لدى الطفل، وبين حمايته من مشاعر لا تناسب عمره؟ وهل ما نراه اليوم هو فقدان تدريجي للطفولة في زمن الترندات والمحتوى المفتوح؟ نحتاج إلى رؤيتكم في تفسير هذه الظاهرة وتداعياتها على نشأة الجيل الجديد.

الإجابة 07/08/2025

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

 

شكرًا لطرحكم هذا السؤال العميق، الذي يعكس وعيًا اجتماعيًّا ونفسيًّا مهمًّا في زمن تداخلت فيه المشاعر مع الشاشات، وضاعت الحدود بين الطفولة والرشد!

 

نعم، ما وصفتموه في مشهد بكاء الطفلة بحرقة أمام كلمات أغنية عن الخذلان ليس مجرد لحظة عاطفية، بل هو –كما أشرتم– مرآة لمشكلة أعمق نسميها في علم النفس التربوي الأسري "البلوغ العاطفي المبكر" (Early Emotional Maturity).

 

وهذه الظاهرة تُعد من علامات ما يُعرف بـ "النمو غير المتوازن" (Asynchronous Development)، حيث ينمو الجانب العاطفي لدى الطفل قبل أوانه، متأثرًا بعوامل خارجية لا تليق بمرحلته النمائية.

 

أولًا: في هذه الحالة ما الذي يحدث للطفل نفسيًّا؟

 

 

حين يتعرض الطفل بشكل متكرر لمحتوى يحوي مضامين وجدانية معقدة، مثل الخيانة، الخذلان، الوحدة، الفقد... فإن جهازه النفسي (والذي لا يزال في طور البناء) يُجبر على محاولة استيعاب مشاعر تتجاوز قدرته على الفهم والتحليل. وهذا يُدخل الطفل فيما نسميه بـ

التحفيز أو الاستثارة العاطفية المفرطة (Emotional Overstimulation)، وهو ما قد يؤدي إلى:

 

- اضطراب في الهوية العاطفية.

 

- تشتت بين الواقع والخيال.

 

- ظهور أنماط من التعلق المرضي أو الحزن المزمن غير المفهوم.

 

ثانيًا: كيف نفسر هذا من منظور تربوي؟

 

التربية العاطفية السليمة تمر بمراحل، تبدأ من التنظيم العاطفي وليس الانفجار العاطفي، وتُبنى عبر التوجيه والاحتواء.

 

أما ما نراه اليوم، فهو ما يُعرف بـ الاستعارة الشعورية المبكرة، حيث يتبنى الطفل مشاعر وتجارب لا تخصه، بل سمعها في أغنية، أو شاهدها في فيديو، أو قرأها في منشور، وبدأ يُسقطها على عالمه الطفولي، دون وعي أو تحليل أو إدراك للأبعاد.

 

قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرّم الله وجهه: "ربوا أبناءكم على غير ما رُبيتم عليه، فإنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم".

 

فعلى الرغم من مراعاة التغيرات الهائلة في التربية والظروف والبيئة، فإن هذا لا يعني أن نُطلق لهم الحبل على الغارب، بل أن نوازن بين حماية فطرتهم، وبين توجيه مشاعرهم في المسارات السليمة (وهذا أمر ضروي للغاية).

 

ثالثًا: سؤالكم: هل نحن أمام فقدان للطفولة؟

 

للأسف نعم، نحن أمام ما يسمى تآكل البراءة (Erosion of Innocence)؛ فالطفل اليوم لم يعُد يعيش خيالاته الخاصة، بل يعيش خيالات الكبار من خلال الشاشات.

 

يُقال في التربية: "لا مشكلة في أن يبكي الطفل لأنه فقد لعبته، لكن هناك مشكلة حين يبكي لأنه يشعر بالخيانة!" فهذه ليست مشاعر طبيعية لطفل في عمر 7 أو 8 سنوات!

 

رابعًا: إذًا كيف نوازن؟!

 

1- لا نكبت تعبير الطفل العاطفي، لكن نُعيد توجيهه لما يناسب سنه (فن محترم ومباح، حكايات، تعبير حر، لعب رمزي).

 

2- نراقب المحتوى الذي يتعرض له، ليس فقط من ناحية الكلمات، بل من ناحية الرسائل الخفية التي يحملها المحتوى، وغالبا تكون مقصودة وموجهة لعقول النشء!

 

3- نُشرك الطفل في حوارات يومية بسيطة تساعده على التمييز بين ما يشعر به حقًّا، وما تأثر به خارجيًّا.

 

4- نُعزّز في البيت التربية الإيمانية العاطفية، التي تغرس في الطفل الطمأنينة من خلال الحديث عن رحمة الله، وعدله، وقربه، بديلًا عن رسائل العالم الرقمي المليء بالخذلان والفقد والتضليل.

 

قال تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾؛ فالطفل يُولد بفطرة سليمة، لكن البيئة قد تُشوّه هذه الفطرة إن لم ننتبه.

 

وأخيرًا، الطفلة التي بكت على كلمات الأغنية ليست مذنبة، بل هي ضحية لمن صمتوا عن تصنيف المحتوى، ولمن سوّقوا لمشاعر لا تخص عالمها، ولمن غفلوا عن دورهم التربوي في تشكيل وعيها العاطفي.

 

وعلينا أن نحمي مشاعر أطفالنا، لا بأن نمنعهم من التعبير، ولكن بأن نُعلّمهم كيف يشعرون بطريقة صحية وسليمة وآمنة.

 

* همسة أخيرة:

 

في زمن الترند، لا نريد لأطفالنا أن يكبروا مشوّهين وجدانيًّا، بل نريدهم أن ينضجوا طبيعيًّا، في الوقت المناسب، وبالطريقة المناسبة.

 

بارك الله فيكم على هذا الطرح، ووفقنا وإياكم لحسن التربية والرعاية.

الرابط المختصر :